اعترافات كاتب: بين الربح والشغف

مع بداية كل يوم جديد، يتردد في ذهني نداءان متزامنان لكن مختلفان. نداء يدعوني إلى وكالة التسويق حيث ينتظرني محتوى حملة جديدة، ونداء آخر يذكّرني بالقصائد التي تختبئ في درج مكتبي وملاحظات هاتفي. أعد قهوتي، أختلط بزحام الرياض، وبين أصوات المنبّهات ووهج الإشارات أتساءل: كيف يمكنني أن أكتب ما يرضي السوق ويروي روحي في آنٍ واحد؟ 

خبز النهار

في المكتب أضع سماعة الرأس وأفتح صفحة جديدة. يُطلب مني أن أكتب سطرًا يقنع المتلقي بأن منتجًا ما هو اختياره الصحيح. أكتب، أمسح، أكتب من جديد، وأعيد الصياغة، حتى أصل لنتيجة أعتقد أنها مُرضية. حين يبتسم المدير أشعر بلحظة رضا، لكنها تشبه لقمة خبز تسد جوع الجسد ولا تُشبع القلب. أعلم أنّ راتبي سيصل آخر الشهر، وأن الفاتورة ستُسدَّد، لكني أعلم أيضًا أن شيئًا عميقًا يذبل في داخلي كلما كتبت بمشاعر لا أشعر بها حقًا. 

هواء الليل

عندما يهدأ حرّ النهار وأعود إلى البيت، أغسل وجهي بماء بارد وأفتح دفتري البسيط. هنا لا عميل ينتظر عرض الأسعار ولا رئيس يطلب تعديل الفاصلة. هنا لا شيء سوى أنا وأوراقي البيضاء ومساحتي الحُرة اللا محدودة. أكتب عن أشياء لا تُباع: عن رائحة المطر فوق تراب نجد، عن حنين المدن حين تغلق محالها وتبقى أضواء المقاهي وحدها متيقظة. في تلك اللحظات أستعيد سبب حبي الأول للكتابة، وأشعر أن صدري يتّسع وكأنني ألتقط هواءً نقيًا بعد يوم طويل داخل غرفة مغلقة. ومع ذلك، ظلّ سؤال يتردد بداخلي: هل تكفي هذه الكتابة لتضمن لي قُوت غدي؟

البحث عن الصدق في سوق مزدحم

أحاول إقناع نفسي بأن الإعلان ليس خصمًا للحقيقة. فالناس يحتاجون إلى من يرشدهم، واللغة أداة لتنظيم الخيارات. أقول إنني ما دمتُ صادقًا في الوصف فقد ساهمت بخدمة المتلقي الذي قد يجد ضالته في هذا المنتج. أحيانًا أصدق هذه الفكرة، خاصة حين أرى إعلانًا يحترم عقل المتلقي ويقدّم منفعة حقيقية. لكنني أعود وأتذكر أن الهدف النهائي لكل حملة هو الربح. حتى أكثر الشعارات دفئًا خُلقت لتفتح محفظة وتغلقها بعد الشراء. فهل يمكن للنية الصافية أن تبقى صافية وهي تسير في ممرات السوق؟ وهل يسعني أن أكتب لوجه الله والميزانية في الوقت نفسه؟

منقسم بين لغتين

أشعر أنني أتكلم لغتين. في النهار أتحدّث بلغة الأرقام والحصص السوقية وتجزئة الجمهور، وفي الليل أعود إلى لغة الحلم والذاكرة والإحساس. كلا اللغتين تسكنني لكنهما لا تلتقيان إلا نادرًا. وعندما يحدث ذلك، تغمرني إشراقة فرح قوية خاطفة كوميض البرق، ثم تختفي سريعًا ويعود الليل إلى سكونه. أحيانًا أتخيل أنني شخصين في جسد واحد؛ أحدهما يحرس الاستقرار والآخر يبحث عن معنى أعمق من الاستقرار، وإرضاء أحدهما غالبًا يعني خذلان الآخر.

نعمة ومسؤولية

أقول لنفسي إنني محظوظ؛ قلمي على الأقل يطعمني ويكسوني، وكثير من الشعراء ماتوا وهم ينتظرون أن تطعمهم أحرفهم. أواسي نفسي بتذكيرها أن هذا الدرب سلكه الكثيرون قبلي؛ نجيب محفوظ كان يُنهي عمله الحكومي ثم يكتب رواياته قبيل الفجر، وغازي القصيبي أدار شؤون وزارته نهارًا وعاد ليروي قصصه ليلًا، وفرانز كافكا كان يُنجز ملفات التأمين حتى المساء ثم يلوذ بأوراقه ليكتب ما بقي في نفسه من حكايات.

ومع ذلك يبقى في القلب غصّة: لمَ لا يكفي الإبداع وحده؟ ولمَ يبدو أن السوق لا يصغي إلا للغة يضبطها سعر الصرف؟ أكتب هذه السطور وأنا أعلم أن لدي حرية المغادرة، لكن لدي أيضًا مسؤولية البقاء. هكذا أصل كل ليلة إلى السؤال نفسه: هل يمكن للكلمة أن تخدم غايتين متعارضتين؟ وهل أستطيع أن أكون الكاتب الذي يبيع ما لا يُباع؟

لا أملك جوابًا قاطعًا. أضع القلم فوق الطاولة، أطفئ مصباحًا صغيرًا بجواره، وأنصرف. في الغد سأكتب إعلانًا جديدًا، وفي الليل سأكتب نصًا لا أعرف إن كان سيرى النور. سأبقى بين الربح والشغف، أراقب المعركة الصامتة في داخلي، باحثًا عن لحظة تصطلح فيها اللقمة مع القصيدة دون أن يفقد أيّ منهما طعمه.