logo

كيف ننظر إلى اللوحات الإعلانية

في هذه المقالة التي كتبت عام 1960، يتأمل هوارد غوسيج في معنى وجود اللوحات الإعلانية من حولنا. لا يناقش شكلها أو تصميمها فقط، بل يسأل: هل من حقها أن تحتل مجال رؤيتنا؟

كيف ننظر إلى اللوحات الإعلانية
عن هوارد غوسيج Howard Gossage

وُلد هوارد غوسيج في شيكاغو عام 1917، ثم استقرّ في سان فرانسيسكو بعد أن عاد من خدمته كطيار بحري. هناك افتتح وكالة إعلان صغيرة داخل محطة إطفاء مهجورة، عبارة عن مكتب صغير في النهار، ثم يتحول ليلًا إلى صالون يجتمع فيه كتَّاب وفلاسفة ومبتكرين. كان هوارد شغوفًا بطرح الأسئلة عن حق الجمهور في الاحترام ولذلك أطلقوا عليه لقب «سقراط سان فرانسيسكو». كان يؤمن أيضًا بأن «لا أحد يقرأ الإعلانات؛ الناس يقرأون ما يهمّهم»، فاستبدل التكرار الممل بإعلانات ذكيّة ومسابقات تشرك المتلقّي. وقد جُمعت مقالاته بعد وفاته في كتاب The Book of Gossage الذي لا يزال مرجعًا أساسيًّا لدارسي التسويق والاتصال.

عن المقالة

نُشرت مقالة «كيف ننظر إلى اللوحات الإعلانية» في مجلة هاربرز في فبراير 1960، في سياق أمريكي بحت، لكن كثيرًا من الأفكار التي طرحها هوارد غوسيج ما زالت تلقى صدى حتى اليوم. فالإعلانات الخارجية، رغم انتشارها وتطور أدواتها، لا تزال تثير تساؤلات حول تأثيرها على المجال البصري العام، ومدى مشروعيتها كوسيلة تفرض حضورها دون طلب الإذن. وعلى الرغم من أنها أصبحت جزءًا ثابتًا من المشهد الحضري في مدن كثيرة حول العالم، إلا أن بعض اعتراضات غوسيج لا تزال قابلة للتطبيق، بل وشديدة الارتباط بالنقاشات الدائرة اليوم حول الإزعاج البصري، والحق العام، وحدود الإقناع في المساحات المشتركة.


من السهل أن تلاحظ وجود اللوحات الإعلانية، لكن من الصعب أن تتأملها بموضوعية دون الانجرار إلى انتقادات جانبية. رغم ذلك، سأحاول.

من الغريب أصلًا أن تكون هذه اللوحات موجودة. بل إن الجدل اليوم حول السماح بها على الطرق السريعة يشبه نقاشًا جديًا حول ما إذا كان من المقبول حرق الساحرات في منطقة مهددة بالحرائق. نادرًا ما يتوقف أحد ليسأل: لماذا هذه اللوحات موجودة أصلًا؟

يبدو أن اللوحات شقّت طريقها إلى أذهاننا تمامًا كما احتلت الفضاء من حولنا. بقيت لفترة طويلة حتى أصبحنا نراها أمرًا طبيعيًا. وبينما نتعامل مع العبارات العشوائية على جدران الأنفاق باعتبارها تصرفات غريبة، صرنا ننظر إلى الإعلان الخارجي على أنه صناعة محترمة.

نعم، اللوحات الإعلانية تُعامل اليوم كجزء ثابت من المشهد، لكن المراعي المفتوحة كانت كذلك في وقت مضى. وكما اختفت المراعي حين تصادمت مصالح الأفراد مع الحقوق العامة، قد تختفي هذه اللوحات أيضًا. من المحتّم أن تلتحق بقائمة ما تركناه خلفنا، مثل السُفن الحربية القديمة وألواح السيارات الجانبية. وربما تصبح لوحات «كوكاكولا» العتيقة مجرّد ديكور يسدُّ فيها أحفادنا نافذة لا يرغبون برؤية ما خلفها.

في الواقع، بدأت هذه اللوحات بالتراجع فعلًا بسبب قوانين التخطيط العمراني ومشروعات الإسكان. وهذا ليس من المستغرب، فالمركبة (السيارة) التي كانت السبب في ازدهار هذا النوع من الإعلان، تحمل في داخلها أيضًا ما سيقضي عليه. يمكن القول إن اللوحة تموت لأنها نجحت أكثر من اللازم. ولو أن الحصان بقي وسيلة النقل الأساسية، لربما طال عمر الإعلان الخارجي قليلًا.

قصة اللوحات والإعلانات الخارجية بدأت هكذا:

في بلدة صغيرة، كان هناك حدّاد لا يحتاج إلى لافتة، فصوت مطرقته كان يكفي. علّق فوق بابه حدوة حصان. ثم تعلّم الناس القراءة، ومرّ رسام لافتات جوّال فصنع له لوحة كتب عليها ببساطة: «حدّاد».

مع الوقت، افتتح حدّاد آخر متجرًا له. فباع الرسام للأول (براون) لوحة تقول: «براون الحدّاد، حدوات عالية الجودة منذ 1776». ثم باع للثاني (غرين) لوحة تقول: «غرين الحدّاد، حدوات عصريّة». وهكذا وُلد التنافس.

لكن الأمر لم يتوقف عند هذا الحد. عرض الرسام على براون أن يصنع له لافتة تُعلق خارج البلدة لاقتناص الزبائن قبل أن يصلوا. وافق براون، وبالطبع تبعه غرين. كانت تلك أول لوحة إعلانية لا ترتبط فعليًا بمكان العمل. ومن هنا، بدأت اللوحات تكبر وتبتعد. أصبح الرسام مختصًا، وبدأ يضع لوحاته على الحظائر ومباني المدن. ثم جاءت السيارة، وكشفت له طريقًا مفتوحًا بلا نهاية.

منذ تلك اللحظة، لم تعد اللوحة حادثة عابرة، بل أصبحت كيانًا يمكن مساءلته. عبارة مثل «مطعم جيد بعد نصف ميل» يمكنك تجاوزها، لكن اللوحة الإعلانية تحمل توقيع شركة واضحة وعنوانًا يمكن الرد عليه.

الشركات الكبرى تعرف تمامًا مدى حساسيتها لأي نقد. رأيت حملة إعلانية توقفت بالكامل بسبب رسالة احتجاج واحدة. ثم عادت من جديد بعد رسالتين تمدحانها. أربعة سنتات أوقفت الحملة، وثمانية أعادتها.

حاولت صناعة اللوحات الدفاع عن نفسها بكل الوسائل: محامون، مستشارو علاقات عامة، عبارات دينية مثل «العائلة التي تصلّي معًا تبقى معًا»، حدائق صغيرة وسياج مزخرف حول بعض اللوحات. لكن كل ذلك لم يُقنع المعترضين.

غالبًا ما يُقال إن اللوحات تشوّه الطبيعة وتحجب المنظر. هذا اعتراض مشروع، لكنه أضعف مما يُظن. فالقطاع يشير إلى أن أقل من 10٪ من اللوحات توجد في أماكن ريفية مفتوحة، وأنها مصممة بشكل جيد ومصانة باستمرار. ومع ذلك، حين يتحول النقاش إلى مقارنة بين الجمال والقبح، فإنه لا ينتهي. فالعالم مليء بأشياء أبشع من أي لوحة.

لكن المشكلة ليست في الشكل، بل في المبدأ. السؤال الحقيقي هو: هل للإعلانات الخارجية الحق في الوجود أصلًا؟ تدّعي الصناعة أن لها هذا الحق باسم حرية التجارة، لكنها في الواقع تبيع شيئًا لا تملكه: مجال رؤيتك.

تولي الحكومات أهمية كبرى لحماية أجوائها، لكن لا أحد يحمي «الجو» البصري الذي يخصّ كل فرد.

ما الفرق بين إعلان في لوحة وإعلان في مجلة؟ كلمة واحدة: الإذن. أنت تشتري المجلة بنفسك، وتختار إن كنت تقرأ الإعلان أم لا. في التلفاز يمكنك تغيير القناة. أما اللوحة، فهي تفرض نفسها عليك، لا يمكن إغلاقها ولا تجاوزها، ولا يمكنك ببساطة رمي الشارع من النافذة.

يقول البعض إن التضييق على اللوحات خطر على مجال الإعلانات ككل. هذا قد يكون صحيحًا فقط إن اعتبرنا اللوحات وسيلة إعلام. لكنها ليست كذلك، إنها إعلان معزول لا يقدّم أي محتوى سوى جذب انتباهك.

أما أنا، فقد وصلت إلى نقطة لم أعد أراها فيها أصلًا. عيني تتجاوزها من تلقاء نفسها. وأتساءل: كم منّا يشاركني هذا الشعور؟

الإعلان الخارجي - Out-of-Home Advertising (OOH)

الإعلان الخارجي - Out-of-Home Advertising (OOH)

إعلانات تُعرض خارج المنزل، مثل اللوحات الإعلانية والإعلانات في وسائل النقل العام

إظهار المزيد
اقرأ المقال التالي

مقالات ذات صلة