كثيرًا ما يُقال لي في بيئة العمل إنني «شخص واضح»، واضحة حين أكتب «البريف»، وحين أشارك الملاحظات، وحتى حين أطلب تعديلًا بسيطًا.
مع الوقت تأكدت أن هذا الوضوح لم يكن مجرد أسلوب، بل أثر مباشر للغة متقنة تُسندك في أصغر تفاصيل يومك. حين تختار الكلمة الصحيحة، الصياغة السلِسَة، وعلامة الترقيم المناسبة، و«الإيموجي» المعبر؛ يصبح الطريق بينك وبين الفريق مفتوحًا، وتتحول الفكرة من احتمال، إلى اتفاق.
في الوكالات الإبداعية، أعتبرُ اللغة إحدى أدوات القيادة، ووسيلة فعالة لتوجيه الأفكار وصناعة أثرها. ومن هنا أشاركك في هذا الجزء الثالث من «دليل الكاتب» أربع ركائز أساسية ساعدتني في تشكيل خبرتي اللغوية: المهارات اللغوية، المراجع الموثوقة، المصطلحات المتخصصة، والأخطاء التي تعلَّمتُ منها.
١ | المهارات اللغوية: معايير احترافية فضلًا عن أن تكون جمالية
هل توقفت يومًا عند الطريقة التي تستطيع بها مهاراتك اللغوية حماية الفريق، وحماية الفكرة، وحتى حماية سمعتك؟ الكاتب المحترف يعرف أن اللغة قرار إداري بقدر ما هي قرار إبداعي. فهي ترفع جودة العمل، وتقود الأفكار في اتجاه واضح ومتسق.
في الوكالات الإبداعية، المهارات اللغوية أكبر من مجرد قدرة على الكتابة، هي مجموعة سلوكيات تحريرية تبني الهيكل الداخلي للنص: دقة المفردة، تماسك الجملة، ترابط الفقرات، وضوح النبرة، والقدرة على تكييف الأسلوب مع المشروع والعميل.
خطوات عملية:
اختبر «قراءة الخمس ثوانٍ».
طريقة يعتمدها محررو الصحف العالمية للتأكد من أن الفكرة تصل فورًا بدون مقدمات مرهقة.
اكتب بعين المصمِّم، واقرأ بعين العميل، وفكِّر بعقل المستفيد.
هذه الثلاث زوايا منهج يستخدمه كتاب المنصات الكبرى لتوحيد الرؤية بين الفريق.
حرِّك علامة الترقيم إلى موقع غير متوقَّع.
تمرين بسيط يستخدمه كتاب المقالات الطويلة لملاحظة كيف يتغير الإيقاع، ويعيد تنشيط الأُذن اللغوية.
اختصر النص إلى 50% من حجمه.
تقنية تحرير كلاسيكية تكشف أين تكمن الفكرة الحقيقية دون زوائد.
٢ | المراجع اللغوية | الذاكرة المؤسسية للكاتب
قد يتبادر إلى ذهنك سؤال بعد حديثنا عن المهارات اللغوية: كيف يمكن للكاتب أن يمتلك أسلوبه الخاص، وفي الوقت نفسه يستند إلى إطار لغوي ثابت دون أن يتعارضا؟ هنا يحضر «المرجع» بوصفه نقطة الارتكاز التي تضبط القرار اللغوي، وتوحد لغة الفريق، وتمنح كل مشروع مسارًا واضحًا مهما تغير سياقه الإبداعي.
المرجع، ببساطة، ذاكرة لغوية جاهزة تُقدم معنى محسومًا، ومفردة دقيقة، وصياغة ثابتة تقلل الاجتهاد وتسرِّع التحرير. ولهذا تبني غرف الأخبار العالمية مرجعًا تحريريًا موحدًا؛ لغة واحدة تقود أفكارًا كثيرة وتضمن خروج المحتوى بصوت واحد مهما اختلفت الأقلام.
وفي سياق المحتوى العربي الذي نسعى لتعزيز حضوره وموثوقيته، تتضاعف أهمية وجود مرجع لغوي موثوق، خصوصًا مع تركيز «رؤية السعودية 2030» على اللغة العربية بوصفها ركيزة من ركائز الهوية الوطنية. وبالنسبة لي، أصبح الرجوع إلى «مجمع الملك سلمان للغة العربية» عادة تحريرية تمنحني قرارًا لغويًا أوضح، وتقلل مساحة الخلاف مع الفريق، وتجعل النسخة الأولى أقرب للنسخة النهائية المعتمدة.
ومع الوقت، يبدأ الاعتماد على المرجع بتنمية مهارات أخرى عند الكاتب مثل دقة الملاحظة، والقدرة على البحث، وحس التقصي وكأنك تبني حاسة لغوية إضافية تُعينك في كل مشروع جديد.
خطوات عملية:
اعتمد مرجعًا لغويًا ثابتًا لكل مشروع.
كما تفعل الصحف العالمية: مرجعٌ واحد = لغة موحدة + قرارات أسرع + نصوص متسقة.
استخدم قاعدة بيانات «مجمع الملك سلمان» عند التعامل مع المصطلحات.
تثبيت المعنى يحميك من اللبس، ويحافظ على قوة الرسالة، كما تفعله صحيفة «ذا غارديان» في تحديث قائمة المصطلحات الحساسة وتفسير دلالاتها بشكل دوري.
دوِّن ملاحظاتك اللغوية في ملف يخصك.
هذا الملف يتحول تدريجيًا إلى «قاموسك الشخصي» ومصدر دخلك ربما! المورد الذي يعكس أسلوبك ونبرة صوتك وقراراتك التحريرية، وفي شبكة «إن بي آر»، يحتفظ مقدمو البرامج بملفات شخصية للمفردات والنبرات المستخدمة في البث لضمان ثبات الصوت التحريري.
أنشئ قاموسًا لغويًا لكل عميل.
ممارسة تحريرية عالمية لضمان ثبات النبرة عبر الزمن، وثبات اللغة يعني ثبات الهوية والصورة الذهنية، كما شركة «أوغلڤي» العالمية للإعلان، يمتلك كل عميل قاموسًا داخليًا يحدد طريقة كتابة اسمه ونبرته وخطابه عبر الحملات.
٣ | المصطلحات: لغة السوق
الآن، وبعد أن تضبط لغتك وتبني مرجعك، تصل إلى منطقة تتحرك كل يوم، بل كل لحظة: منطقة المصطلحات.
كلمات جديدة تسمعها في الاجتماعات، أو تستخدمها في الترندات، ومن المحتمل أيضًا أنك توظفها في الإستراتيجيات، لأنها في حقيقتها لغة السوق، أي أنها إشارات لأفكار العميل، وسلوك الجمهور، ومهاراتك في الموائمة بينهما!
مصطلحات مثل «الإنسايت»، «الراشنال»، «التوجُّه»، «نبرة الصوت»، و«المحتوى التحويلي» لم تظهر اعتباطًا. لقد وُلدت من تحولات حقيقية نشاهدها يوميًا كتضخم البيانات، وازدحام العلامات التجارية، وصعود المحتوى القصير، والتأثر بثقافة المؤثرين، وسرعة التغييرات، كذلك دخول اهتمامات جديدة مثل الألعاب الإلكترونية، وتسويق المدن والعوالم الافتراضية ونحوها.
لماذا يجب على الكاتب استيعاب هذا كله؟
لأن المصطلحات حين تُفهم جيدًا تفتح لك أبوابًا أسرع للتحليل، وتجعلك تقرأ «البريف» بعيون فاحصة، وتضعك في موقع أكبر من «منفذ». هنا يبدأ الكاتب يتحول إلى صانع قرار: يقترح، يناقش، يبرر، ويبني رؤية.
بل إن الوكالات التي تتوحد فيها لغة المصطلحات تصنع ما يشبه الكاريزما المؤسسية: عمق في الطرح، ذكاء في القراءة، ورشاقة في الإدارة، وهذا ما يلمسه العميل فورًا.
خطوات عملية:
كل شيء في وقته حلو!
خصص بدائل لغوية تشكِّل «حقيبة مصطلحات» مرنة؛ بدائل تحمل معنى زماني أو مكاني مفتوح: أي مصطلحات تناسب صباح مقهى هادئ، وأخرى تلائم مساء مكتبة أو مساحة عمل مختلفة.
عينك عالمسار
فالمصطلح لا يتغير بتغير القطاع، بل بتغيُّر الدافع، والكاتب الذي يفهم الدوافع، يكتب من مركز الفكرة ولبُّها.
«اشرح مثل ما تشرح الأستاذة!»
قدِّم المصطلح لشخص بسيط خارج المجال، وراقب متى تصل به إلى لحظة الفهم، هذا يساعدك في تقييم إمكانية استخدامه أم لا.
٤ | الأخطاء الشائعة: روتين فوضوي
ليش فوضوي؟ لأن خطأ واحد ممكن يجر معه سلسلة كاملة من الخسارات: ثقة تنكسر، سمعة تتأثر، وصفقة تضيع، غير الوقت المهدر في التعديل.
نصائح سريعة:
● اكتب كل شيء بصيغته الرسمية
الاعتبارات القيادية والألقاب، الأسماء، الجهات، المشاريع، المدن، الشهادات.
● تأكد من المرفقات
جرب الرابط بنفسك وتأكد أنه فعال، وتأكد من كتابة الوسم بدون التباس أو تكرار حرفي.
● أقواس التنصيص والفواصل
استخدم أقواس التنصيص العربية «» للنصوص العربية والإنجليزية " " للإنجليزية.
والفاصلة العربية «،» للعربية، والإنجليزية (,) للإنجليزية.
● لا تقع في فخ التكرار.
النصوص اللي «تعيد نفس المعنى» زوائد تُرهق القارئ وتضعف الرسالة، تمامًا مثل مُحاضِر «يكرر ويعيد» لنفس النقطة.
● انتبه للَّبس اللغوي
اكتب: غير مهم وليس الغير مهم، شبه عاجل وليس الشبه عاجل، هذه الأخطاء الصغيرة تُقرأ كعلامة عدم احتراف.
● مرجعك الموثوق
للمعاني، والصيغ، والألفاظ الرسمية؛ جرب منصة «مجمع الملك سلمان للغة العربية»: https://ksaa.gov.sa/
ختامًا،
أصل معك إلى نهاية هذا الجزء من الدليل، وأذكرك أن كل قاعدة مررنا عليها، وكل فكرة اختبرناها، هي جزء من مسؤوليتنا تجاه اللغة العربية وتجاه الحرفة التي نمثلها.
لتحميل ملخص الدليل: اضغط هنا










