يُنظر إلى «جيل زد» في غرف الاجتماعات ومنصات التواصل بمزيج من الحذر والانتقاد. وغالبًا ما يُوصفون بأنهم متطلبون، معترضون، سريعو الملل، وصعبي الفهم. لكن هذه الأوصاف لا تخفي حقيقة اقتصادية أكبر وأكثر أهمية: هذا الجيل، الذي وُلد ما بين عامي 1997 و2012، يمثل القوة الشرائية القادمة التي لا يمكن تجاهلها. اليوم، يشكلون نحو ثلث مستخدمي الإنترنت عالمياً، وتتوقع «بلومبيرغ» أن يصل إنفاقهم السنوي العالمي إلى 12.6 تريليون دولار بحلول عام 2030.
هذه التناقضات تشكل أحجية صعبة أمام العلامات التجارية. أساليب التسويق والتواصل التي صُممت للأجيال السابقة لم تعد تناسب هذا الجيل. إذاً، ما الذي يميزهم جوهريًا عن غيرهم؟ ولماذا قد تعاني العلامات التجارية في الوصول إليهم؟ والأهم من ذلك، كيف تصل وتقنع الجيل الذي يرى كل شيء ولا يهتم إلا فيما ندر؟
ما الذي يجعل «جيل زد» مختلف؟
السكان الأصليين للعالم الرقمي
عاش «جيل زد» مرحلة انتقالية لم تعشها أي فئة قبله. شهد تحول الإنترنت من ترف إلى ركن أساسي في حياة كل فرد، وواكب انتشار الهواتف الذكية، بداية منصات التواصل العملاقة، التحول إلى الفيديوهات القصيرة، وتداخل الأحداث والمحتوى العالمي مع المحلي.
المعلومات تصلهم بسرعة، وفي حال احتاجوا البحث عنها فالأمر لا يستغرق الكثير من الوقت والجهد. هذا ينعكس أيضًا على تجربة الحصول على أي شيء آخر تقريبًا، فهي اليوم أسهل بكثير مما كانت عليه سابقًا. لذلك هم يرفضون التجارب البطيئة تلقائيًا.
مُشكيين بالفطرة
لديهم مستوى عالٍ من التشكيك تجاه العلامات التجارية والمؤسسات ووسائل الإعلام التقليدية، ويرجع ذلك جزئيًا إلى نشأتهم في ظل الأزمات الاقتصادية والاجتماعية التي شاهدوها تحدث أمام أعينهم. هذا بالإضافة إلى أن تعرضهم لكَمّ هائل من المحتوى لسنوات طويلة، صنع منهم جيل قادر على قراءة السياق، وفهم النبرة والدوافع الخفية والظاهرة. فهو حين يشاهد إعلان أو منشور، لا ينتبه فقط للرسالة، بل يلتقط النبرة ودرجة المصداقية، وأحيانا حتى النية.
هذه القدرة جزء أساسي من طريقة اتخاذهم للقرار. ما ينقصه الوضوح لن ينجح معهم، وما يتصنع المصداقية سيسقط فورًا. نشأتهم في عالم مليء بالمحتوى المصقول والمؤثرين والرسائل التي تتداخل فيها الدعاية مع الرأي، طور لديهم قدرة على اكتشاف أي محاولة للتجميل أو المبالغة. يريدون أن يعرفوا من يتحدث إليهم ولماذا. وكلما كنت أصدق، أصبحت أقرب.
استهلاك مختلف للمحتوى
يميل «جيل زد» للمحتوى البصري أكثر بكثير من المحتوى النصّي. لذلك نجد أن الفيديوهات في السنوات الأخيرة اعتلت عرش المحتوى على الإنترنت، فبدأت المنصات القديمة مثل «انستقرام» و «إكس» و «سناب شات» بإضافة خانة للفيديوهات القصيرة، وظهرت منصات جديدة مثل «تيك توك» قائمة بشكل رئيسي على نوع المحتوى هذا.
ينعكس أيضًا تفضيلهم للمحتوى البصري على طريقة بحثهم عن المعلومة. كان الجيل السابق يعتمد على محركات البحث مثل «قوقل» في البحث عن المعلومة، ولا يضايقه قراءة مقالة كاملة حتى يصل للجملة التي يبحث عنها. أما بالنسبة لـ «جيل زد»، فالصورة والفيديو هما المدخل الرئيسي للمعرفة والاكتشاف. أكثر من 40% من «جيل زد» يستخدمون تيك توك وانستقرام كمحركات بحث رئيسية، و 55% منهم يفضلون نتائج البحث المبنية على الصور والفيديوهات عوضًا عن النصوص.
ولا يمكننا أن ننسى عامل التشتت وقصر الانتباه، الذي تطور نتيجة الفيض الهائل من المحتوى والمعلومات التي يتعرض لها هذا الجيل في كل لحظة، مما دفعهم لتطوير قدرة فلترة فائقة وسريعة للأشياء التي لا تستحق وقتهم.
توقعات عالية
تشكّل وعي هذا الجيل على محتوى مُخصَّص تقدمه لهم الخوارزميات، مما خلق توقع أساسي بأن كل محتوى يتلقونه يجب أن يكون ذا صلة قوية باهتماماتهم الفردية، وأن يظهر لهم المحتوى الذي يحتاجونه قبل أن يدركون حاجتهم له. عندما تتواصل العلامة التجارية معهم بأسلوب عام وغير مُخصص، يفسرون هذا كفشل في فهمهم. كلما شعروا أن المحتوى موجه لهم بشكل خاص، كلما زادت نسبة تفاعلهم معه. يتوقعون من العلامات التجارية والمؤسسات أن تتواصل وتستجيب لهم بسرعة.
إضافة لذلك فإن انكشافهم على كمية مهولة من المحتوى المحلي والعالمي لسنوات طويلة رفع ذائقتهم وتوقعاتهم. فهم قادرين بسهولة على تمييز المحتوى المصنوع باهتمام وبمصداقية، ولن يرضون بأقل منه، فالخيارات أمامهم تكاد أن تكون لا نهائية.
منصاتهم المفضلة
فهم توزيع «جيل زد» على المنصات يساعد على إيجاد أفضل طريقة لمخاطبتهم:
- «تيك توك» هو المنصة الأكثر تأثيرًا، والمكان الذي غالبًا ما تبدأ فيه الترندات ويسهل فيه قراءة الوعي الجمعي.
- «يوتيوب» لا يزال منصة لا غنى عنها لدى شريحة كبيرة من هذا الجيل بغرض التعلم والترفيه.
- «إنستقرام» يبقى مساحة للتعبير البصري وبناء هوية شخصية، ولكن يقل استخدامه لدى «جيل زد» الأصغر سنًا.
- «سناب شات» فقد الكثير من بريقه عالميًا لكنه يحتفظ بشعبية كبيرة في الخليج والعالم العربي.
- منصة «إكس» (تويتر سابقًا) أقل حضورًا، لكنها مهمة لفئات مهتمة بالتحليل والثقافة والسياسة، وهم غالبًا الفئة الأكبر سنًا في «جيل زد».
الترتيب هذا يجعل من الواضح لنا أن طريقة تقديم الرسائل يجب أن تراعي اختلاف كل منصة، والخطاب الموحد لن يكون مجدي. فما تقوله وتنشره في «إكس» من المفترض أن يختلف تمامًا عن المحتوى الذي تظهر به في «تيك توك».
لماذا تواجه بعض العلامات صعوبة في الوصول إليهم
فخ الـ Cringe
يتملك «جيل زد» حس عالي تجاه اللغة البسيطة والهزلية (الميمز) والتعليقات السريعة. أي محاولة لنسخ أسلوبهم دون فهمه ستكون مضحكة وواضحة. المشكلة ليست في الطرافة نفسها، بل في الطريقة التي تُقدَّم بها. الجمهور يشاهد المحتوى يوميًا ويعرف متى يتصرف الحساب ككيان حي ومتى يكرر جملة كتبت في اجتماع طويل. محاولات تصنّع الشبابية ستقابل مباشرة بتعليقات مثل: «OK boomer» أو «رفقًا بهم».
تخمة الإعلانات
سنوات طويلة من التعرض للإعلانات جعلت «جيل زد» قادر على تمييز الإعلانات من أول ثانية. اللقطة المصقولة، الصوت المعتاد، الإضاءة المثالية، كلها إشارات يقرأها سريعًا. هذه القدرة تجعل المحتوى التقليدي أقل تأثيرًا مهما كان حجمه. ومع كثرة التعرض، ينشأ شعور بالنفور. لذلك نجد أن الإعلانات التي تنجح مع «جيل زد» هي تلك التي لا تبدو كإعلان أصلًا.
جيل يشارك ولا يكتفي بالمشاهدة
يفضلون التفاعل وصناعة نسختهم الخاصة من المحتوى. يتوقعون مساحة مفتوحة للتعليق، أو إضافة صوت، أو إعادة صياغة. لذلك نجد الترندات في منصة مثل «تيك توك» تنشأ وتنتشر بسرعة عالية، فغالبيتها مصممة لتكون قابلة لإعادة التشكيل من قِبل الجمهور. بينما ما زالت بعض العلامات تعمل بمنطق الإرسال من طرف واحد، وهذه الفجوة تجعل الحملات أقل حيوية.
التقليل من وعيهم الثقافي
«جيل زد» يميز بسرعة المحتوى الذي لا يفهم البيئة المحلية، اللغة المتصنعة والتوظيف الخاطئ للمصطلحات الدارجة، واستعمال الميمز بصورة عشوائية كمحاولة لتجسيد صورة شبابية مصطنعة. سيكتشفون بسهولة محاولة اللحاق بالترند في اللحظة الخطأ، والتعاونات التي لا تمت لهوية العلامة بصِلة، وسيعلقون عليها بحدة وبدون رحمة.
جيل سريع ومنظومات بطيئة
جيل يتحرك بسرعة، تقابله شركات تتحرك بخطوات تقليدية. كل حملة تحتاج إلى اجتماعات وموافقات عديدة. والمحتوى يمر بسلسلة مراجعات تطفئ بريقه قبل أن يرى النور. هذه الدائرة البطيئة تجعل العلامات تصل للترند بعد انتهائه، وتقدم الفكرة بعد أن أصبحت بعيدة جدًا عن الذين تخاطبهم، فيفقد المحتوى أثره حتى لو كان جيدًا.
الوصفة السحرية
حين نتأمل العلامات التي استطاعت الوصول والتأثير على «جيل زد» نجد مجموعة عوامل مشتركة بينهم:
- مرونة عالية في تطوير أساليب التسويق
- الارتباط الوثيق والأصيل بالثقافة المحلية
- استجابة سريعة للمتغيرات والتفاعل مع الجمهور
- الظهور بشكل حقيقي وعفوي
- الابتعاد عن الخطاب الموحد ومراعاة اختلافات المنصات
- إعطاء مساحة لمشاركة الجمهور
- تجنب التزييف أو المبالغة
المختصر المفيد،
النجاح في الوصول إلى «جيل زد» يتطلب التخلي عن مفهومين أساسيين كانا عماد التسويق في العقود الماضية: الكمال والسيطرة. هذا الجيل لا يبحث عن الصور المصقولة أو الشعارات الجاهزة، بل يبحث عن العفوية، والاعتراف بالخطأ، والشفافية التامة.
التحدي الأكبر اليوم أمام العلامات التجارية يكمن في بناء عملية داخلية تتسم بالمرونة والسرعة، تسمح لها بأن تتحدث وتتفاعل بمنطق المنصة لا بمنطق قاعة الاجتماعات. لقد انتهى عصر البث المباشر الذي تملي فيه العلامات رسائلها، وبدأ عصر «المشاركة» الذي يجب أن تكون فيه مستعدة لتصبح مادة خام يُشكلها ويشارك في صناعتها الجمهور.










